الأحد، نوفمبر 15، 2009

كارثة الرعاية الاجتماعية في ليبيا بقلم/ ليلى أحمد الهوني

كارثة الرعاية الاجتماعية في ليبيا

بقلم/ ليلى أحمد الهوني


الرعاية الاجتماعية مهمة إنسانية سامية، مهمتها العناية بالبعد الإنساني، لفئات من المجتمع وجدوا أنفسهم دون اختيار منهم في ظروف قاهرة، لا أهل ولا أقارب وربما لا أصدقاء، وحتى وان وجدوا بعض الأهل فلا علاقة لهم بهم، وبالتالي فهم يحتاجون إلى مساعدة الغير، وبالدرجة الأولى أحوج ما يكون إلى مساعدة الجهات الرسمية، في الدول التي يعيشون بها، باعتبارها الأكثر تأهيلاً ولديها من الإمكانيات المادية والبشرية، ما يجعلها قادرة على وضع برامج وخطط تضمن تحقيق، نوع من الاستقرار الاجتماعي، والنفسي، والصحي، والتعليمي، والاقتصادي لهذه الفئات، لكي يصبحوا أكثر فاعلية وايجابية في محيطهم الاجتماعي.

في الدول المتقدمة، تلك الدول التي تحترم أدامية الإنسان، سواء كان رجل أو أمرآة، مهما كانت الظروف، التي أحاطت بهم أو المشكلات التي تعرضوا لها، فأنها تتعامل معهم بأسلوب حضاري، لأن الهدف الأساسي من قيام دور الرعاية الاجتماعية فيها بمختلف أنواعها، ليس مجرد تقديم أماكن الإيواء فحسب، ولكن أيضا تقديم خدمات وأوجه عديدة من المساعدات و الرعاية اللازمة، والتي من بينها الجانب الصحي والعلاجي بجميع أنواعه، لتمكين الأفراد من إيجاد الحلول المناسبة، لمشكلاتهم الشخصية والنفسية والتغلب عليها، وكذلك البعد الوقائي والتربوي، في تحصينهم ضد الوقوع في الأخطاء، والعلاقات السلوكية الغير سوية، وتزويدهم بجميع سبل المعرفة والتعليم، ليخوضوا غمار الحياة وهم مؤهلين بالصورة المطلوبة.

وإذا نظرنا لما هو قائم في ليبيا اليوم، فأن الحالة التي عليها دور الرعاية الاجتماعية، هي بكل المقاييس والمعايير الإنسانية والدينية والأخلاقية، المتعارف عليها في المجتمع الليبي، (بعد حدوث انقلاب سبتمبر)، تعد مزرية وفي غاية الإهمال والاستغلال وسوء الإدارة و كذلك التجني. ويمكن سرد بعض الأسباب الهامة وجذورها الرئيسية، التي أدت إلى نشئ ظواهر اجتماعية خطيرة في البلاد:

لقد تسببت سياسات النظام الحاكم في ليبيا، بأتباعه ومعاونيه والعاملين معه، وكذلك أجهزته "الأمنية" والغير أمنية المختلفة، في تفاقم وإفراز الكثير من المشكلات الاجتماعية، كالتفكك الأسري، والبطالة، والفقر، وانتشار ظاهرة تعاطي المخدرات، والانحلال التربوي والأخلاقي، والانحرافات الغير مسبوقة، والتي لم يعرف الليبيون مثيلاً لها من قبل.

إن حالة القمع الشديد الذي تعرض لها المواطن الليبي، في ظل النظام القائم في ليبيا كالقتل والتشريد، واعتقال وسجن المواطنين بسبب أو بدون سبب، قد تسببت بشكل مباشر، في ضياع الكثير من الأسر وأبنائها و بتفككها، وذلك في ظل غياب الأب أو من يعولها. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، بسبب سياسة إفقار الليبيين سواء من خلال ما يعرف بقانون 15، الذي جمد المرتبات والترقيات، أو عبر عمليات التأميم والمصادرات للملكيات الخاصة، من عقارات وأراضي، ومساكن ومحلات تجارية وشركات، الأمر الذي جعل المواطن الليبي معتمد اعتماداً كلياً على الدولة، في حين أن هذه الدولة بحكوماتها ومؤسساتها، خاضعة بالكامل لتلك لسلطة ولذلك النظام، الذي كان سبباً في جعل المواطن في هذا المستوى المادي، وبما أنها أي السلطة، لا تعطي للمواطن قوته اليومي إلا "بالقطارة"، الأمر الذي دفع بالكثيرين، ممن لم يستطيعوا كسب لقمة عيشهم بطرق الحلال، بأتباع أسهل الطرق وأوفرها للوقت والجهد، أي بأتباع طرق الحرام، بأشكاله المتعددة.

ثم توالت الانتهاكات في تلك الفترة البغيضة، من حقبة نظام القذافي، وجاءت عملية تجيش المدن والقرى، وإذلال الرجال وسلبهم لكرامتهم، وامتهانهم في جميع القطاعات والفئات، ورميهم في المعسكرات، الأمر الذي دفعهم للغياب عن بيوتهم لفترات طويلة، وسمح بالمزيد من التفكك الأسرى، وما "زاد الطين بله" إرغام الآباء على وضع بناتهم في التدريب العسكري، عندما فتحت أبواب الكلية العسكرية للبنات، مما سبب بالكثير من المآسي للعديد من الفتيات وأسرهم، وانتهى بهم إلى الانحراف وفقدان الانتماء الأسري، كما كان للمغامرات العسكرية والحروب الخارجية، التي ورط فيها نظام القذافي الآلاف من الليبيين، فقتل من قتل وشرد من شرد في تلك الحروب، وبالتالي أصبح الوضع غاية في الخطورة، على وضعية الآلاف من الأسر الليبية، التي وجدت نفسها في مهب الريح، دون أن تقوم السلطة بحمايتهم أو تقديم الرعاية لهم، أو توفير المساعدات المالية لتكفل لهم حياة كريمة متواضعة، وهم بدون عائل أو معين.

كما أننا يجب أن لا ننسى، كيف استغل النظام ومعاونيه، والذين عملوا في مراكز ومناصب السلطة، وفي لجانه "الثورية" وجميع دوائره الحكومية، التي تتعامل مع المواطنين، وماذا فعلوا في المواطن العادي وكيف أبتز؟ وكيف أستغل؟ وخاصة استغلالهم إكراهاً وبأسلوب غير أخلاقي للعنصر الأنثوي، كل هذه الأسباب وغيرها، هي التي أفشت تلك الظواهر الاجتماعية، التي أدت بعدد من أصحابها وضحاياها، وما نتج عنها من ولادات غير شرعية، وانتهى بهن أوبهم في نهاية الأمر في دور الرعاية الاجتماعية*.

دار الرعاية الاجتماعية للفتيات بغض النظر عن الأسباب والظروف الإنسانية أو الاجتماعية، التي جاءت بهن إلى هذه الدار و ما أثير حولهن من جدل ونقاش مؤخرا في الإعلام الليبي**، ومن تحقيقات بعض "اللجان" حول تعرضهن إلى المضايقات والتحرش الجنسي والاستغلال، إلا أن الواقع يؤكد حتى وان لم يكشف عن الكثير من التفاصيل، بأن حجم المعاناة التي تتعرض لها المقيمات في هذه الدار كبير، وبأن لا حول ولا قوة لهن، فهن الطرف الضعيف في هذه المعادلة الاجتماعية، التي مازالت تنظر إلى المرأة نظرة دونية، وفي العلاقة مع الجهات الرسمية، هذا إذا سلمنا بأن حالة الفوضى والتسلط والتخويف، التي تصل في معظم الأحيان إن لم تكن كلها، إلى حد الإرهاب والأذى الشخصي وتشويه السمعة، هي السمة الغالبة في كل تعاملات الجهات، والأجهزة التابعة للسلطة الحاكمة في ليبيا، مع الليبيين عموماً، فما بالك إذا كان الطرف الأخر امرأة، أو فتاة أو النساء بصفة عامة، فعندها يصبح الأمر كارثة حقيقة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

كما إن ما يقال عن دور الجمعيات النسائية ، أو تلك المهتمة بشؤون المرأة في ليبيا!!، وتنمية دورها في المجتمع في مختلف المجالات لا أساس له من الصحة، فالواقع المنظور يقول: بأن لا قيمة لهذه "الجمعيات" ولا اثر جدي ولا أهمية تذكر، ما لم يقترن الأمر أولاً: بتغيير عقلية التفكير، وكيفية التعامل واحترام النصف الآخر من المجتمع، أما وضع التشريعات والقوانين بهذه الطريقة وحدها،غير كفيلة بتقديم أي نوع من الحماية ولا الرعاية الفعلية وليست الشكلية، للمرأة الليبية في المجتمع الليبي.

إن دور الجمعيات النسائية الموجودة الآن في الدولة الليبية، ومنذ حدوث انقلاب سبتمبر تقريباً، مهمتها فقط انحصرت في بعض الأمور الشكلية، "كالمناسبات الاحتفالية" والمؤتمرات الاستعراضية، أوفي برقيات التأييد والمساندة "لفخامة القائد وأبنائه"، أو في تلك الإكراميات الدعائية "الفتات"، التي تتفضل بها هذه الجمعيات على غير المغضوب عليهم، والمسماة "بالعرس الجماعي". إن هذه الجمعيات لم تطور من نفسها بطريقة علمية، ولم تكلف نفسها يوماً، بأن تنزل إلى الميدان الحقيقي، والى ارض الواقع، وتزور وتكتب التقارير اللازمة، وتجرى البحوث الميدانية المجدية، حول أوضاع المرأة في أماكن العمل الحكومي، وفي المدارس، والمعاهد والجامعات والمستشفيات، والمصانع، وفي دور الرعاية الاجتماعية، أو حتى في الكليات العسكرية النسائية، للتعرف على حقيقة أوضاع المرأة الليبية، وكيفية التعامل معها، و ما هي الضغوطات وحجم التحرشات الجنسية، التي تتعرض لها في حياتها اليومية.

دار الرعايا الاجتماعية للشبان مرة أخرى بدون الخوض في تفاصيل الظروف الاجتماعية أو الإنسانية، التي دفعت بهؤلاء الشباب ليكونوا نزلاء في هذه الدور، فأن المشكلات التي يتعرضون لها، هي غير معروفة وغير معلومة وربما لا أحد يحس بها، إلا أن احد المواقع الليبية قد كشفت منذ وقت قريب بعض التقارير فيه، والتي تشير إلى طبيعة الأوضاع والمعاملة الغير إنسانية، في احد هذه الدور، حيث يتم معاقبة بعض الشباب، من النزلاء في دورات المياه والمراحيض، وبعضهم الآخر لا يتلقى البتة العناية الطبية اللازمة، والبعض الأخر لا يتلقى التعليم المناسب، أو حتى التدريب المهني والحرفي، كما أنه لا توجد لديهم أي برامج متكاملة، لإعدادهم حتى يتهيئوا ليصبحوا مواطنين منتجين في المجتمع، بل أسهمت هذه الدور في جعلهم، فئة مهمشة لا إمكانيات ولا دور لها، وهو بالطبع ما انعكس على حالتهم النفسية، وساعد على خلق المشاعر العدائية لدى بعضهم اتجاه المجتمع ككل، وكون لديهم شعور متزايد بعدم الانتماء .

مستشفى الأمراض العقلية والنفسية قد يعتقد البعض أن مستشفى الأمراض العقلية والنفسية لا علاقة له بالرعاية الاجتماعية، ولكنه في كثير من الدول المتقدمة يعد من الأولويات، التي تتوجه إليها الخدمات الاجتماعية، وتوليها الكثير من الاهتمام، باعتبار أن نزلائها من أكثر الفئات، التي تحتاج إلى الرعاية والعناية الخاصة، لعدم مقدرتهم على العناية بأنفسهم بالصورة الطبيعية، وكذلك بسبب عدم قدرتهم على الاختلاط بالمجتمع خارج دائرة المستشفى، وأحياناً خوفاً من الأذى الذي قد يتسببون فيه، لأنفسهم أو لغيرهم من الناس، ولهذه الأسباب وغيرها فهم في حاجة لرعاية خاصة أكثر من غيرهم، وهنالك الكثير من القصص والأخبار، التي يتم تناقلها همساً أحياناً وجهراً أحياناً أخرى، دون أن تصل إلى وسائل الإعلام الليبية، تلك الوسائل المشغولة دائماً، والمهتمة فقط بأخبار (القائد وأنجاله )، والتي تطمس بتعمد الأخبار عن تلك المراكز النفسية، من حيث سوء الرعاية والمعاملة، ومن الضرب والاعتداء الجنسي، على السيدات والفتيات في الأقسام الخاصة بهن، مما يؤكد انعدام الرقابة على مثل هذه المؤسسات، وعدم الاهتمام بمتابعة النزلاء، وكذلك عن حالة التسيب التام، التي تسود تلك المراكز والمستشفيات النفسية والأمراض العقلية.

وحتى يكون نقل الصورة في تلك المستشفيات أوضح وأصدق، لا يفوتني أن أذكر انتهاز المسؤولين في تلك المستشفيات، لبعض العنابر بالمستشفى وتحويلها إلى ملتقى للعشاق، ولممارسة خطاياهم وانحرافاتهم الأخلاقية بجميع أنواعها.

دور العجزة وكبار السن وهي أيضاً تعد من الدور الاجتماعية، التي لا نسمع عنها شيء ولا نعرف عنها إلا القليل، وذلك في ظل غياب التقارير الدورية، وعدم وجود المتابعة والمراقبة المستمرة عن الحالة الصحية للنزلاء، ونوعية العناية والمعاملة، والاهتمام بالظروف المعيشية والخدمات التي يتلقونها.

أن مشاكل دور الرعاية الاجتماعية في ليبيا، لا تشكو من غياب الرقابة والمتابعة، ولا من عدم توفر القوانين والتشريعات الرادعة في حالة وقوع الانتهاكات فحسب، بل إنها تشكو أيضاً من فقدان الضمائر الحية، التي تثمن قيمة العمل في مجال الرعاية الاجتماعية، أو بتعبير آخر انعدام الضمير وعدم الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية، التي تستوجبها كل أوجه الرعاية الاجتماعية.

إذن فان غياب الضمائر الحية، وإهمال مثل هذه الدور والمؤسسات الاجتماعية، وما حدث وما يحدث فيها من فساد، و ما نتج عن ذلك من حدوث بعض التحرشات الجنسية، ومن انتهاكات واضحة و صارخة لحقوق الإنسان، لم يأتي من فراغ، ولم يحدث بين ليلة وضحاها، بل كان ولا يزال نتيجة الأوضاع الراهنة للدولة الليبية، تحت هذا "النظام" الفوضوي أللأخلاقي، وفي ظل وجود هذا الخليط من البشر الغير سوي، والمتمثل في الحاكم وحاشيته ومعاونيه وأتباعه، كذلك في عدم وجود قوانين ودساتير صارمة، وإن وجدت يتم التلاعب بها وعدم تطبيقها بالعدل على المواطنين، أي بوجود الوساطة والمحسوبية و"أحمد و أحميدة"، حيث يعفى عن صاحب الكارثة والمسبب فيها و بها، لأنه من قبيلة فلان أوعلان، في حين يتهم الموظف البسيط الكادح، ويتحمل كل الأعباء والمسؤولية والأحكام، لأنه مواطن عادي ولأنه ليس من قبيلة فلان أوعلان.

أن ما يحدث الآن، في نظري لا يعدو أن يكون محاولة فاضحة للنظام الحاكم، في تلبيس بعض المسؤولين كل الأخطاء وكل التدهور والإهمال، وإيهام المواطنين بأن المسؤولية كل المسؤولية، تقع على عاتق من كان مسؤول على هذه الدور، ولكن مؤكد سيكون هذا الحكم غير عادل، نعم قد يكون المسؤول هو الشخص الظاهر في الصورة، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نحمله كل المسؤولية، لأن تكليف هذا المسؤول والأوامر قد جاءت من جهة ما من السلطة المتمثلة في "النظام" الحاكم، ولو كانت السلطة أو "النظام" الحاكم يعني ويهتم بمصالح مواطنيه، ما كان يترك هذه المؤسسات حتى تصل إلى ما وصلت إليه، بل كان من المفترض أن يراقب منذ اليوم الأول كل ما يحدث في هذه المؤسسات، من فساد وإهمال وانتهاكات وتحرشات، وكان من المفترض أيضاً أن يعطى لمثل هذه المؤسسات الكثير من الاهتمام والأولوية، لا أن يترك الأمر إلى أن يصل إلى ما وصل إليه، ثم يأتي ويتهم المسؤول بالإهمال أو بالتسبب في هذا الأمر، في حين يرفع يده بالكامل، عن دوره في هذا التسيب وهذا الإهمال، وهذه المأساة وهذه الكارثة.
________________________________________________
* في ليبيا إذا كان الشخص الذي قام بهذا العمل المشين مع أي فتاة مواطن عادي لا يمكنه الفرار من جريمته، بل يتم القبض عليه وإرغامه على الزواج من الفتاة ونسب أبنه أو أبنته له، أما إذا قام بهذا العمل المشين أحد عناصر النظام أو المقربين منه فأن بإمكانه الإفلات وبكل سهولة من مسؤوليته وإيواء الطفل إلى دار الرعاية منذ اليوم الأول من ولادته.
** تطلق بعض الوسائل الإعلامية في ليبيا على بعض فتيات دار الرعاية "مجهولات النسب" فمن منطلق قناعاتي وحسبما ما أراه لا يمكن لنا أن نطلق عليهن هذا الاسم لسبب بسيط وهو أن المتأمل في معظم هؤلاء الفتيات يستطيع أن يدرك أنهن من أصول ليبية، وعلى هذا فهن مواطنات ليبيات معلومات الأصل والنسب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

lailaelhoni_68@yahoo.com, blaila89@hotmail.co.uk