أحداث مايو كما عشتها
بقلم/ ليلى أحمد الهوني
هذه المقالة تتناول بعض الأحدث التي عشتها أو مرت علي في مرحلة مبكرة من حياتي، حيث كنت طالبة في السنة الأولى من المرحلة الثانوية، وقد أثرت كثيراً في نفسي ومن ثم شكلت مواقفي اتجاه ما يجري في بلدي، من جراء ممارسات نظام القذافي اللا إنسانية.
في يوم الثامن من مايو وفي سنة 1984م وأثناء تواجدي في المدرسة سمعنا صوت طلقات نارية كثيفة وعالية من رشاشات، ولم نعرف السبب من ورائها أو مصدرها، غير انه لم تمضي سوى ساعة تقريبا، حتى فوجئنا بتجميع الطالبات من قبل الإدارة المدنية و الإدارة العسكرية في ساحة المدرسة، حيث شرع بعض الجنود العاملين في طاقم الإدارة العسكرية، في إبلاغنا في إطار سياسة وسيكولوجية التخويف والترهيب، بأن هناك عناصر إرهابية مدعومة من قوى أجنبية معادية، للقيام بعمليات قتل وإرهاب واستهداف للمدنين في المدارس، وبالدرجة الأولى مدارس البنات والأطفال وترويعهم، وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد، ولعل القارئ يدرك هنا وقع مثل هذه السياسة على نفوسنا ومشاعرنا نحن الطالبات وفي هذه السن بالذات.
و ضمن سياسة التحريض المستندة على المعلومات الخاطئة، بقصد زرع الشكوك والخوف من كل المحيطين بنا، قاموا بإعطائنا بعض المعلومات في كيفية حماية أنفسنا في حال تعرضنا لهجوم من "أعداء الشعب" كما تم وصفهم من قبل "هولاء"، وقد استمرت هذه التعليمات لمدة ساعتين تقريبا.
ثم قام هولاء الجنود بعد ذلك بإخراجنا في صفوف محاطة بهم لمنعنا من العودة إلى بيوتنا وأهالينا، رغم حالة الخوف التي انتابتنا جميعا، و أقتدونا إلى "الساحة الخضراء" حيث وقفنا في احد جوانبها، و شرعت مجموعة من "الثوريين" في الصراخ وإطلاق الشعارات، التي تحمل عبارات التهديد والانتقام والتخوين والقتل، مؤكدين لنا بأنهم سوف يحضرون جثث بعض الأشخاص الذين تم قتلهم بدعوى الدفاع عنا.
وفي موقف لا يمكن أن يغيب عن ذاكرتي أو أنساه تم إحضار الشهداء في عربة جمع القمامة*، مما يدل على حقارة ونفسية مجرمي نظام القذافي الذين لا يقدرون حتى الموتى، و تم إلقائهم على الأرض أمامنا، ثم قاموا برفسهم بأرجلهم بعد أن تجردوا من أي مشاعر إنسانية، و لم يلبثوا أن طلبوا منا القيام بمثل ما قاموا به من عبث ووحشية اتجاه الشهداء.
وفي هذه اللحظات المريعة والبشعة لم يكن أمامنا نحن الطالبات إلا الفزع و الصراخ والبكاء، ثم الفرار من أمام المشهد اللا إنساني، وعندئذ بدأ هولاء المجرمون يلاحقوننا بالكلمات النابية والشتائم واتهامنا بأننا خونة "للثورة"، ثم عدنا إلى بيوتنا في حالة نفسية سيئة للغاية.
تغيبت بعد ذلك عن المدرسة لمدة يومين أو ثلاثة على أثر الصدمة، ثم عدت للمدرسة من جديد بسبب قرب الامتحانات النهائية، وفي الأيام الأولى بعد عودتي كنا نتفا جئ بين الحين والأخر، بقطع الدروس أثناء الحصص وإجبارنا للذهاب إلى قاعة المدرسة الكبيرة، ومحاولة بعض أفراد "النظام" القيام بعميلة غسيل دماغ لنا، من خلال إلقاء ترهات تخون هولاء الشهداء، وكل من ورائهم ووصفهم بالعملاء والخونة والرجعيين، وتعبئة نفوسنا بالكراهية والحقد عليهم وعلى أسرهم وذويهم وكل أقاربهم، في محاولة لخلق الشك والانقسام بين صفوف المواطنين.
في هذه الفترة شهدت البلاد أسوأ حالات الرعب والترهيب للمواطنين وتهديدهم، و كذلك شهدت أنواع مختلفة من مظاهر العنف والإساءات، وقد لعبت الآلة الإعلامية الدعائية للقذافي دورا غاية في التضليل والتحريف، من خلال إدعاءات وأكاذيب تقول بأن هولاء الشهداء قد جأوا لتسميم أبار المياه، و تدمير المنشآت الحيوية، وتفجير البنوك، والمؤسسات الحكومية، وترويع وقتل الأبرياء.
و كنا في هذه الأثناء نشاهد كل يوم عند عودتنا من المدرسة إلى بيوتنا مظاهر أخرى لزرع مشاعر الخوف في نفوسنا، والتي يريد نظام القذافي أن يروع بها المواطنين، وكان ذلك واضحا من خلال انتشار رجال الأمن والجيش في الشوارع مدججين بالأسلحة، وقيامهم بعمليات التفتيش والتدقيق في كل المارة.
سادت البلاد حالة من الرعب والخوف والفوضى والاضطراب بسبب عمليات الاعتقال العشوائية، التي طالت العديد من الأسر وملاحقة أبناء الشعب الليبي في كل المدن والقرى.
تعد هذه المرحلة هي الأسوأ في حياتي، حيث أدركت رغم صغر سني مدى همجية ووحشية نظام القذافي، كما أدركت جيدا أنه لا علاقة للشعارات التي يدعيها القذافي بحقيقة ممارساته على أرض الواقع.
و بدأت في هذه الفترة في التفكير في القيام بأي شئ، كرد فعل طبيعي على هذا الوضع المزري، وقد تملكتني حالة من الكره الشديد لهذه السلطة الطاغية و أشخاصها و أجهزتها المختلفة وكل ما يصدر عنهم.
و قد زاد هذا الشعور لدي بشكل كبير جدا عندما بدأت المحاكم الصورية، التي تخلو من أي شكل من الأشكال القانونية أو الشرعية، في إصدار أحكامها بالإعدام على عدد من أبناء الشعب الليبي في مختلف المدن والمناطق والقرى الليبية.
وكانت مشاهد الشنق في الساحات والميادين وسط ذهول وفزع أهالي وذوي الشهداء، وصراخ وتعلق أعضاء اللجان الثورية بجثث الشهداء، ترسم صورة مروعة ودامية في نفسي، وفي نفوس كل الليبيين، و قد سادت البلاد حالة من الحزن والأسى الممزوجة بالخوف والرعب من حقيقة جرائم هذا "النظام".
هذه الصورة الدامية قد أعادت إلى أذهان الليبيين وحشية وفاشية الاستعمار الايطالي، كما شكلت هذه الصورة البشعة في نفسي ومشاعري نقطة سوداء و حاسمة لدي و زادت من حالة الكره والبغض لهذا "النظام" وممارساته.
ورغم المحاولات العديدة التي قام بها أعوان نظام القذافي لتشويه صورة هولاء الشهداء، وتخوين الوطنيون الذين يعارضون القذافي خارج ليبيا، وأيضا رغم الحملات الدعائية الإعلامية التي تمت لتغيير أفكارنا عن حقيقة ما جرى إلا أنها بات بالفشل كلها.
وتحولت صورة هولاء الشهداء في أذهاننا، سوى بالنسبة لي أو بالنسبة لعدد كبير من زميلاتي، إلى أبطال و رموز وطنية نعتز ونفتخر بها.
وربما بطريقة عفوية وغير منظمة وكردة فعل، شرعت مع عدد من زميلاتي* في كتابة الشعارات المعادية لنظام القذافي وأعوانه، على حوائط المدرسة "على جدار الإدارة العسكرية والمثابة الثورية للمدرسة"، و على حوائط الأزقة التي كنا نمر بها أثناء عودتنا من المدرسة، وعلى سبيل المثال كنا نكتب "لكل ظالم نهاية" "الموت للقذافي وأعوانه" "الخلود لشهداء الوطن" "يسقط القذافي"،وغيرها من الكلمات التي لا تسعفني الذاكرة الآن لسردها.
لقد حاول بعض أعوان النظام بالتعاون مع إدارة المدرسة التعرف على الطالبات اللواتي كنا يكتبن هذه الشعارات المعادية للنظام في المدرسة، حيث قامت إدارة المدرسة بالطلب من مدرسي اللغة العربية إعطاءنا مواضيع إملائية عشوائية، ثم جمع الأوراق التي نكتب عليها في محاولة للتعرف على خطوطنا، ومقارنتها بالخطوط التي كنا نكتبها على حوائط المدرسة، غير أنهم فشلوا في التعرف على أياً منا.
تلك كانت ذكرياتي مع أحداث مايو المجيدة، واليوم ونحن نُحيي هذه الذكرى،علينا جميعا في داخل الوطن وخارجه، أن نتذكر حجم التضحيات الجسيمة، والرجال الذين قدموا أروحهم من أجل خلاص الوطن، من ربقة الاستبداد والحكم الفردي الأسري القبلي المتخلف، ونتذكر معها أيضا كل المآسي والكوارث، التي تسبب فيها نظام القذافي للشعب الليبي على امتداد ما يقارب 39 عام.
وعلينا بالأهمية اللا ننسى ولو للحظة واحدة أن الأوضاع التي تمر بها ليبيا لم تتغير، وأن الخطر الداخلي المتمثل في بقاء هذا "النظام" الدكتاتوري، مازال قائما يعرقل أية محاولات نحو الأفضل والأحسن، ونحو تحرر الشعب الليبي من أغلال هذا "النظام".
هذه الأوضاع تتطلب من كل القوى الوطنية أينما كانت داخل الوطن أو خارجه، أن تستنفر طاقاتها و إمكانياتها وأن توحد صفوفها، لتقريب يوم الخلاص وأنه بإذن الله لقريب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*صورة إحضار الشهداء في عربة جمع القمامة ارتبط في مخيلتي منذ تلك اللحظة، بأنه لا يمكنني في يوم من الأيام أن أغفر للقذافي وأجهزته مثل هذا التدنيس المسيء للشهداء، الذي وصل إلى درجة الانحطاط الإنساني.
*في هذه الذكرى أريد أن أتقدم إلى زميلاتي اللواتي شاركت معهن إرهاصات هذه المرحلة بأصدق التحيات والتمنيات في أن يجمعنا الله في وطناً حر قريبا بإذن الله.
ومن ينسى سنوات العذاب والضياع التي انتجها القذافي في ليبيا وكيف انسى عندما كنت صغيرا كيف داهمت اللجان الثورية املاك والدي وصادتها بتهمة البرجوازية والانتماء للسنوسية
ردحذفعبدالله الجارح
نعم أخي عبد الله الجارح .. صدقت والله بالفعل لقد كانت أيام وسنوات غابرة و مؤلمة على ولكل الشعب الليبي ... وما قولنا إلا حسبنا الله ونعم الوكيل في كل من سولت له نفسه المساس بكرامتنا وإنتهاك حرماتنا وسلب أرزاقنا وممتلكاتنا نحن أبناء وبنات الشعب الليبي الحر الكريم
ردحذف