في ذكرى معركة باب العزيزية
الفخر والألم
بقلم/ ليلى أحمد الهوني
بقلم/ ليلى أحمد الهوني
كلما حلت ذكرى معركة باب العزيزية المجيدة، كلما شعرت بشعور ممزوج بين الفخر والاعتزاز وبين الألم والحسرة، وشعوري بالفخر مبعثه أن ليبيا تملك حقاً الرجال الذين يضحون بكل غالي ونفيس من أجل الوطن، وشعوري بالألم والحزن سببه ما آلت إليه هذه الذكرى، من نسيان وربما تجاهل مقصود، لتضحيات جسام قاموا بها رجال ليبيون، وهبوا حياتهم وأرواحهم إخلاصاً لهذا الوطن .
لقد قدم أبطال معركة باب العزيزية الخالدة حياتهم رخيصة، على أمل تحرير البلاد من الطاغية القذافي و كل أزلامه، فلم يفكروا في حياتهم الخاصة، ولا في دراستهم، ولا في أعمالهم، ولا في مناصبهم، بل وهبوا أنفسهم طوعاً و فداءً لليبيا، رجال وشباب من مختلف الأعمار لم تلهيهم الدنيا بما فيها من متاع، بل كان كل تفكيرهم في كيفية إسقاط الظالم وإزالة الظلم عن وطنهم وعن أهل وطنهم، في وقت أنتشر وشاع في كل أرجاء البلاد، الخنوع والجبن والرعب والخوف من الطاغية ومن أزلامه، بل الخوف حتى من العيون التي بثها نظام القذافي آنذاك في كل مكان، في الشوارع وفي المدارس وفي الجامعات، وفي الإدارات والجهات الحكومية، وفي المؤسسات وفي الشركات وفي المصانع، حتى لا يكاد يخلو مكان في البلاد من جواسيسه (بصاصيه).
لقد كانت حالة ليبيا منذ نهاية السبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي، تشبه حالة الموت السريري أو الموت البطيء، لدرجة أن المواطن العادي كان يخشى ويرتعب حتى من أقرب الناس إليه ( قريب يخاف من ضله)، وكانت ما تسمى بعصابة اللجان الثورية في قمة جبروتها وطغيانها، و كانوا عناصرها وأفرادها يتبجحون ويتفاخرون بفسادهم وبجرائمهم وبتصفياتهم الجسدية، للمواطن الليبي في داخل ليبيا وخارجها، ويعتبرونها انتصاراً على أبناء الوطن، والأسوأ من هذا أن الجميع كان يخاف على نفسه من هذا النظام المجرم، بما فيهم الدول والأنظمة التي وقعت جرائم التصفية الجسدية على أراضيها، فقد وقفت هي أيضاً كالمتفرج ولم تتدخل ولم تضع حلاً لهذه المآسي وهذه الكوارث، التي تحدث للمواطن الليبي فوق أرضها وفي حمايتها.
وبالرغم من كل هذه الأجواء الإجرامية المرعبة والمخيفة، التي بثها و نشرها نظام القذافي بين أبناء الشعب الليبي في تلك الفترة من حكمه، فقد قام هؤلاء الشجعان من الشباب والرجال "أبطال معركة باب العزيزية الخالدة"، بأول عمل عظيم وبطولي في مواجهة القذافي ونظامه وكل أجهزته القمعية، فبالرغم من كل التشويه والتشنيع والتزييف للحقائق، الذي مارسه نظام القذافي من خلال وسائل إعلامه الفاشلة، ومحاولته تلفيق التهم لهؤلاء الرجال الوطنيين ووصفهم بالخونة والعملاء، وبالرغم أيضاً من ما تعرضت له عائلاتهم وأسرهم وأهاليهم بل وحتى قبائلهم، من تنكيل ومآسي وحرمانهم من كل حقوقهم، إلا أن أبطال معركة باب العزيزية بذلوا كل ما في جهدهم، و قاموا بكل ما يستطيعون القيام به من أجل ليبيا، إلى أن أزهقت أرواحهم الزكية ورحلوا إلى الخالق البارئ إيماناً منهم بقضيتهم، و فداءً لنصرة الحق و لنصرة شعبهم المظلوم والمقموع.
بعد أحداث معركة باب العزيزية، وإصرار أبطالها الشهداء على مواجهة نظام القذافي بكل شجاعة، أدى هذا الأمر إلى حدوث ردود فعل غبية وغير مسؤولة من القذافي ونظامه، فقد جن جنونه لأنه لم يكن يتوقع مثل هذا العمل البطولي، ولم يكن يتوقع بأن يكون هناك رجال ليبيون في استطاعتهم أن يرعبوه، ويخلخلوا نظامه وهو في عقر داره، الأمر الذي دفعه للقيام بالمزيد من عمليات القمع والقتل والمشانق والاعتقالات، التي طالت الآلاف من الشباب الليبي و بالأخص العائدون من الخارج، وبعض من كبار السن وغيرهم من مختلف فئات المجتمع وقطاعاته.
اليوم وبمناسبة هذه الذكرى العظيمة، أريد أن أدون بعض انطباعاتي الشخصية حول معركة باب العزيزية وأبطالها الشهداء، هذه الانطباعات التي رأيتها وعرفتها عن قرب بالرغم من صغر سني في ذلك الوقت، فهناك أمور مهمة يجب أن تسجل وأن يعرفها الليبيون حول هذه المعركة، فأنا اليوم لن أتحدث عن أسباب هذه المعركة، ولا عن تفاصيلها، ولاعن فجيعة الليبيين في أولادهم، ولا عن المداهمات والاعتقالات والسجن، ولا عن القتل والتمثيل بالجثث ولا.. ولا..، ولكني سأتحدث عن مشاعر الناس وأحاسيسهم حول ما حدث، وكيف كانت نظرتهم وأرائهم اتجاه هؤلاء الرجال وكل ما قاموا به من أعمال بطولية غير مسبوقة، سيشهد عليها الله والوطن والتاريخ بإذن الله.
ففي هذه الأجواء المشحونة، التي فرضها علينا القذافي وما يسمى بأجهزته الأمنية نحن أبناء وبنات الشعب الليبي، وكل محاولاته اليائسة في إدخال حالات الرعب والخوف والشك والريبة في قلوبنا اتجاه هؤلاء الأبطال، إلا أني وجدت الكثير من الليبيين والليبيات ومن مختلف الفئات العمرية، بما في ذلك كبار السن والعجائز، حيث كانوا جميعهم يشعرون بالفخر اتجاه هؤلاء الرجال، الذين فعلاً تجرؤا وبكل شجاعة على مهاجمة القذافي ذلك الطاغية المتحصن في معسكر باب العزيزية، وذلك المعسكر والمقر الذي يحرسه المئات إن لم يكن الآلاف من الجنود، ولأن معظم الليبيون يدركون في ذلك الوقت مدى الخطورة والمصير الذي سينالونه، حتى لو نطقوا مجرد كلمة (هفوة وغير مقصودة) ضد القذافي، فما بالك من يدخل في معركة وجهاً لوجه مع هذا الدكتاتور المستبد، وأين!؟ في مقره في منطقة باب العزيزية، التي يعلم الجميع وأخص بالذكر سكان مدينة طرابلس وضواحيها وزوارها، يعلمون جيدا المصير الذي سيواجه أي مواطن عند مروره بجانب ذلك المقر، أو حتى لو حاول رفع عينيه في حصونها وحراسها وجنودها المدججين بالسلاح (اليد على الزناد)، أؤكد.. إن من زار مدينة طرابلس ومر بجانب منطقة باب العزيزية "القيادة" تحديداً يعرف جيداً، ما معنى حالات الرعب التي يشعر بها المواطن عند مروره ولو أكثر من مرة بجانبها، ولأن معظم الناس الذين قابلتهم في تلك الظروف وذلك الوقت، كانوا يعلمون هذا، كما أنهم أيضاً كانوا يعلمون ضعف المواطنين الليبيين في ذلك الوقت، ورهبتهم وخوفهم من الطاغية القذافي، فمن هنا كانوا دائما و باستمرار يقدرون جل قدر ويثنون بكل فخر على مواقف هؤلاء الأبطال.
لقد كنت كلما ذهبت لمناسبة سواء كانت مناسبة فرح أو حزن، أسمع كثيراً من النساء يتحدثن بينهن وبين بعض (والله هادوا هما التريس اللي تبيهم البلاد)، والبعض الأخر كان يصفونهم (بخيرة التريس وعزهم) وأذكر أن سيدة من السيدات وهي معلمة قديرة، كانت كلما تذكرهم تطلق عليهم "الغزلان الشاردة"، والكثير الكثير من الليبيين كانوا جميعهم يترحمون عليهم وعلى أهاليهم وكل من خلفهم في هذه الدنيا، بقولهم (الله يرحم رجالنا ويرحم من عقبهم ويصبر ناسهم على فراقهم) والله كنت أسمع الكثير والكثير من الكلمات العظيمة، التي تليق بحجم تضحياتهم من كل من قابلت في تلك الفترة أو بعدها، ولم أسمع يوماً أي كلمة سوء قد قيلت من أي شخص في حق هؤلاء الأبطال، أبطال معركة باب العزيزية منذ حدوث المعركة 1984م، إلى أن خرجت من وطني في سنة 2005م.
26 عاماً مرت على هذه الذكرى العظيمة، 26 عاماً على فراق أحب الناس إلى قلبي، إخوتي شهداء معركة باب العزيزية، إخوتي الذين لم ينجبهم لي أبي، ولم تنجبهم لي أمي، ولكن أنجبهم لي وطني الغالي، وطني الحبيب ليبيا 26 عاماً عام تلو الأخر، و كلما اقتربت هذه الذكرى اشعر بالفخر نعم بالفخر بما قاموا به هؤلاء الشهداء، وأشعر بالفخر أكثر وبالمجد، مما قاله الكثيرين عن وصف معركة باب العزيزية ووصف رجالها وأبطالها وشهدائها.
هذه الذكرى بقدر ما تشعرني بالفخر إلا أنها صارت اليوم تشعرني في بعض الأحيان بالألم، عندما أرى أو اسمع أو أقرأ عن أي محاولات من قبل البعض، للإساءة بشكل مشمئز إلى هذا العمل البطولي الشجاع، والسعي من قبل البعض لتشويهه بشتى الطرق والوسائل، وإذا كان نظام القذافي لم يترك فرصة إلا وحاول بها تزييف الحقائق، وإلصاق تهم العمالة والخيانة ونشر العديد من الأكاذيب حول من قاموا بهذا العمل، وهى وظيفة قذرة وسخيفة ومعتادة يقوم بها القذافي وأعوانه منذ اليوم الأول لانقلابهم الأسود، ألا أن ذلك لا يبرر أي جحود أو تقصير من أي طرف وطني ليبي تجاه تضحيات أبطال معركة باب العزيزية.
أني من خلال تضحياتهم العظيمة هذه أدركت أن للحرية ثمن يجب أن يدفعه أبناء الوطن، حتى يتم تعبيد الطريق للآخرين لإكمال المسيرة، وقد يقول البعض لقد خسرنا العديد من أبناء الوطن وضاعت حياتهم، فالقذافي الطاغية مازال موجود ولم ينتهي بعد أو أن يقول البعض إن البلاد تسير من سيء إلى أسوأ، ويقول آخرين الأكثر تشاؤماً يمكن أن يأتوا أولاده من بعده و نعيش في نفس الهم أو أكثر، لكن الرد لن يكون بالتوقعات ولا بالتكهنات، بل الرد يكمن في قدرة الجيل الجديد على التحدي والمواجهة، وكيف بيدنا نحن أن نزرع فيهم حب الوطن، وكيف ننقل لهذا الجيل ماضي نظام القذافي؟ وكيف نرسخ في أذهانهم بأن ليبيا عاشت ظروف قاهرة تحت وطأة هذا "النظام"؟، وقد آن الأوان لكسر القيد وتحقيق التغيير الكامل لهذا الوطن.
ختاماً.. أن هذه المعركة "معركة باب العزيزية المجيدة الخالدة"، سوف تبقى إلى الأبد علامة من علامات الفخر قدمها رجال وشباب أمنوا بأن عملية التغيير تحتاج إلى تضحيات جسام، وإنهم اختاروا أن يكونوا هم أول من يقدم هذه التضحيات، فتحية لهؤلاء الرجال، وتحية لكل من وقف معهم وساندهم، وكل من حفظ عهدهم ولم يتنازل عن مقارعة الحكم المستبد الجائر إلى إن يزول وقريباً إن شاء الله .
*****************
* وقعت معركة باب العزيزية في 8 مايو 1984م، و قام بها مجموعة من رجالات ليبيا وأبطالها ضد نظام القذافي وجها لوجه، في منطقة في طرابلس العاصمة الليبية، تسمى بنفس الاسم وهي مقر سكن القذافي ومعسكره الذي مركزا إرهابياً يهدد حياة وأمن الشعب الليبي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
lailaelhoni_68@yahoo.com, blaila89@hotmail.co.uk